فصل: مسألة يبتاع أحد دينا على ميت:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل لمسائل المستخرجة



.مسألة الشاة اللبون باللبن إلى أجل:

قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: لا خير في الشاة اللبون باللبن إلى أجل أيهما عجل أو أخر صاحبه، وأما الطعام غير اللبن إلى أجل، فلا بأس به. قال سحنون: الذي عرفناه من قوله وقاله لي ابن القاسم غير مرة، أن اللبن بالشاة اللبون إلى أجل لا بأس به، وهو عندي أحسن. وأما قوله الشاة اللبون باللبن إلى أجل فذلك الذي لم يشك فيه قط، ولم يختلف علينا فيه قوله إنه حرام لا يجوز، وقال أصبغ مثله.
قال محمد بن رشد: الأصل في هذه المسألة ما ثبت من «نهي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن المزابنة»، والمزابنة مأخوذة من الزبن وهو الدفع، فمعنى المزابنة المغاررة، وهو أن يغار كل واحد من المتبايعين صاحبه في المعنى الذي غارره فيه؛ وهي تنقسم على قسمين: أحدهما: أن تكون في صنف واحد، والثاني: أن تكون في صنفين. فأما الصنف الواحد فالمزابنة تدخل فيه، كان بالنقد أو إلى أجل، وذلك مثل أن يبيع منه جزافا بجزاف أو جزافا بمكيل، فهذا لا يجوز نقدا ولا إلى أجل؛ وأما الصنفان فإن المزابنة لا تدخله إلا في النسيئة، وذلك على وجهين: أحدهما: أن يبيع منه شيئا بما يحول فيه عينه إلى أجل، والثاني: أن يبيع منه شيئا بما يتولد عنه مع بقاء عينه إلى أجل؛ فأما إذا باع منه شيئا بما تحول فيه عينه إلى أجل، فلا اختلاف في أن ذلك لا يجوز، وذلك مثل أن يبيع منه صوفا بثياب صوف إلى أجل أو كتانا بثياب كتان إلى أجل، أو شعيرا بقصيل إلى أجل يمكن أن يكون إلى ذلك الأجل من الصوف والكتان ثياب، ومن الشعير قصيل، وما أشبه ذلك.
وأما إذا باع منه شيئا بما يتولد منه مع بقاء عينه إلى أجل، فذلك على وجهين: أحدهما: أن يكون أصل التولد فيه موجودا حال العقد، والثاني: لا يكون فيه وإنما يحدث بعده، فأما إذا كان أصل التولد موجودا فيه مثل أن يبيع منه شاة لبونا بلبن إلى أجل، أو دجاجة بياضة ببيض إلى أجل، وما أشبه ذلك، فهو وجه يتحصل فيه أربعة أقوال: أحدها: أن ذلك لا يجوز، كانت الشاة هي المؤجلة أو المعجلة، وهو قول مالك هاهنا وظاهر ما في المدونة.
والثاني: أن ذلك جائز، كانت الشاة هي المؤجلة أو المعجلة، وهو قول ابن القاسم في سماع أبي زيد من كتاب جامع البيوع، ووقع ذلك أيضا في رسم حبل حبلة من سماع عيسى من هذا الكتاب: لا بأس بالدجاجة البياضة بالبيض إلى أجل، وهو أظهر الأقوال، بدليل اتفاقهم على إجازة بيع الشاة اللبون باللبن نقدا، وبالطعام نقدا وإلى أجل.
والثالث: أن ذلك جائز إن كانت الشاة هي المؤجلة، وغير جائز إن كانت هي المعجلة؛ وهو قول ابن القاسم هاهنا، واختيار سحنون، وهو مذهب ابن حبيب، وهو ضعيف في الشاة باللبن إلى أجل؛ لأن المزابنة لا تدخله، إذ لا يبقى اللبن إلى أجل دون أن يتغير، فإنما يعطيه عند الأجل من لبن غير تلك الشاة، وإنما يكون لهذه التفرقة وجه في بيع الشاة اللبون بالجبن إلى أجل؛ لأنه يمكن أن يجمع لبن الشاة فيعمل منه جبنا يعطيه إياه عند الأجل.
والرابع: عكس هذه التفرقة أن ذلك جائز إن كان الشاة هي المعجلة، وغير جائز إن كانت هي المؤجلة، وهو قول أشهب؛ ووجهه: إن كانت هي المعجلة، كان اللبن الذي فيها ملغى في حكم التبع لها، لاحتمال أن يكونا لم يقصداه، وإذا كانت هي المؤجلة، علم أنهما قصداه، إذ قد اشترطاه.
وأما إذا لم يكن أصل ذلك الشيء موجودا فيه حين العقد، وإنما يحدث بعده مثل أن يبيع منه شاة لا لبن لها بلبن إلى أجل يكون فيه للشاة لبن، أو دجاجة لا بيض فيها ببيض إلى أجل يكون فيه للدجاجة بيض، أو ذباب نحل بعسل إلى أجل يكون فيه للذباب عسل، أو نخلا لا تمر فيها بتمر إلى أجل يكون فيه للنخل تمر؛ ففي ذلك قولان:
أحدهما: أن ذلك جائز، وهو قول ابن حبيب في الواضحة في المسائل كلها، وقول ابن القاسم في رسم حبل حبلة من سماع عيسى في الدجاجة التي لا بيض فيها بالبيض إلى أجل، وفي كتاب كراء الدور من المدونة في النخل التي لا تمر فيها بتمر إلى أجل.
والثاني: أن ذلك لا يجوز وهو قول ابن القاسم وروايته عن مالك في رسم نقدها من سماع عيسى من هذا الكتاب، ومن كتاب جامع البيوع. وأما إذا لم يكن للشاة لبن أو للنخل تمر أو للذباب عسل، أو للدجاج بيض إلى ذلك الأجل، فلا اختلاف في أن ذلك جائز.

.مسألة يشتري الرجل الطعام بثمن إلى أجل ثم يقره عند صاحبه:

قال مالك: أكره أن يشتري الرجل الطعام بثمن إلى أجل ثم يقره عند صاحبه وإن اكتاله، وإن اشتراه بالنقد لم أر بذلك بأسا، وذلك أني أخاف أن يؤخره حتى يحل الحق فيكون النقد والكيل جميعا. قال سحنون: قال ابن القاسم: يخاف أن يقول: أبيعكه إلى شهر وأضمنه لك إلى شهر، فيكون النقد والكيل جميعا.
قال محمد بن رشد: كره أن يبتاع الرجل الطعام بثمن إلى أجل ثم يقره عند البائع وإن اكتاله، لئلا يكون ذلك ذريعة إلى شرائه بشرط أن يبقى بيد البائع رهنا حتى يحل الأجل فيستوفي الثمن، فإن أقره عنده على غير شرط لم يفسخ البيع، قاله ابن المواز، ومثله في رواية عيسى. وأما إن وقع البيع على ذلك بشرط فهو فاسد يجب فسخه وإن كان شرط أن يقره عنده بعد أن اكتاله، إذ لا يجوز أن يبيع أحد شيئا من الحيوان والعروض التي لا يجوز أن يتأخر قبضها بثمن إلى أجل على أن يبقى بيده رهنا إلى ذلك الأجل إلا أن يجعله بيد عدل، وقد ذكرنا هذا المعنى في رسم أخذ يشرب خمرا من سماع ابن القاسم من كتاب الأيمان بالطلاق. وأما إن اشترط أن يبقى عنده إلى محل الأجل دون كيل، فالمكروه في ذلك لائح؛ لأنه اشتراه على أن يكون في ضمانه إلى ذلك الأجل، وذلك حرام لا يحل، وبالله التوفيق.

.مسألة أقرض رجلا طعاما إلى أجل فلما حل الأجل قال له غريمه بعني طعاما أقضيك:

ومن كتاب القبلة:
قال ابن القاسم: سمعت مالكا قال في رجل أقرض رجلا طعاما إلى أجل، فلما حل الأجل قال له غريمه: بعني طعاما أقضيك. قال: إن ابتاع منه بنقد فلا بأس به، وإن ابتاع بدين فلا خير فيه. وتفسير ذلك: أنه إذا اشترى منه طعاما بذهب على أن يقضيه مكانه، كأنه إنما اشترى منه ما عليه من الطعام الذي أقرضه بذهب أو ورق نقدا، فليس بذلك بأس أن يبتاع رجل حنطة عليه من قرض بذهب أو ورق أو عرض أو غير ذلك معجل، وأنه إذا ابتاع منه بدين على أن يقضيه، رجع طعامه إليه فصار له عليه ما كان يسأله من الطعام ذهب أو ورق أو عرض أو غير ذلك مؤخرا، فذلك مضارع للربا.
قال محمد بن رشد: هذا بين على ما قال، ولو كان الطعام من بيع لم يجز له أن يشتري منه طعاما على أن يقضيه إياه إلا بمثل الثمن الذي أسلم إليه فيه نقدا لا أقل ولا أكثر، قاله في رسم إن أمكنتني من سماع عيسى، وقد مضى بيان هذا كله في التكلم على أول مسألة من هذا السماع.

.مسألة ذبح شاة ثم سلخها ثم دعا إليها الجزار فقال أسلفك لحم هذه الجزرة وزنا:

قال ابن القاسم: وسمعت مالكا، قال: من ذبح شاة ثم سلخها، ثم دعا إليها الجزار فقال: خذ مني هذه الجزرة، أسلفك لحمها وزنا على أن تعطيني في كل يوم رطلين أو أقل أو أكثر من ذلك، قال مالك: ما أحب ذلك؛ لأني أراه قد أخذ منه في سلفه زيادة لو أقام اللحم عنده صار يابسا، فأسلفه من ضمنه له غريضا مقطعا، ولو وقع هذا على غير صنعة، لم أر بذلك بأسا. فأما ما يصنعان لذلك وإن لم يشترطه أحدهما فلا أحبه.
قال محمد بن رشد: وقوله ولو وقع هذا على غير صنعة لم أر بذلك بأسا، معناه: ولو فعل ذلك رفقا بالجزار لا لمنفعة يبتغيها لنفسه، ولعله لو باع الجزرة جملة، لأخذ فيها من الثمن ما يشتري به من اللحم المقطع أكثر من زنتها، جاز ولم يكن به بأس. وقد روى ابن أبي جعفر عن أشهب أنه قال: إن كان الجزار هو الذي جاءه فاستسلفه فلا بأس به، ظاهره: وإن كانت له في ذلك منفعة، ومعناه: إذا علم الله من قلبه أنه أسلفه إياها لما رأى من حاجة الجزار إلى ذلك، وأنه كان يفعل ذلك لو سأله ذلك ولا منفعة له فيه، وهذا ما لا ينبغي أن يختلف فيه، إذ لا يقدر على أن يسلفه إياها ويسقط المنفعة عن نفسه في ذلك، وذلك نحو ما روى زياد عن مالك في الرجل يكون عنده طعام يخشى عليه الفساد فيسالفه الرجل المحتاج إلى أن يسلفه إياه، فإنه أجاز ذلك إذا أسلفه إياه لحاجته من غير شرط ولا عادة، وإنما اختلف في الرجل المحتاج يسأل الرجل أن يسلفه الفدان يكون له من الزرع فيحصده ويدرسه ويعرف كيله فيعطيه إياه على ثلاثة أقوال:
أحدها: أن ذلك جائز إذا كان المتسلف هو الذي طلبه ليتقوت بذلك، ولم يكن صاحب الزرع هو يعرضه ليكتفي بمؤنته، وهو قول ابن حبيب في الواضحة عن مالك وغيره.
والثاني: أن ذلك لا يجوز إلا أن يكون الفدان من الزرع الكثير الذي لا يحط به عنه مئونة، وهو قول مالك في رسم الآجال من المدونة.
والثالث: أن ذلك يكره وإن كان الفدان من الزرع الكثير، إلا أن يكون هو الذي يحصده ويدرسه ويذريه وكذلك يسلفه إياه، روى ذلك زياد عن مالك.

.مسألة ابتاع طعاما بثمن إلى أجل ثم ندم البائع قبل أن يفترقا:

وقال مالك: ومن ابتاع طعاما بثمن إلى أجل ثم ندم البائع قبل أن يفترقا، فاستقال بغرم يغرمه للمشتري عن العروض أو العين؛ ويدفع إليه طعامه. قال مالك: لا أرى بذلك بأسا إذا كان المبتاع قد اكتاله، قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: وإن ندم المبتاع فرد طعامه وزاده عليه طعاما آخر أو عرضا من العروض ولم يكونا تفرقا. قال: إذا اكتال فلا بأس به، وإن تفرقا فلا أحبه إذا كان الثمن إلى أجل.
قال محمد بن رشد: لا يراعى تفرقتهما وغيبة المبتاع على الطعام إلا في زيادة المبتاع، لا في زيادة البائع. فقوله: لا أرى بذلك بأسا إذا كان المبتاع قد اكتاله، يريد وإن كانا تفرقا على ما نبينه. وتحصيل القول في هذه المسألة أنهما إذا تقايلا قبل اكتيال الطعام، فلا تجوز الزيادة من واحد منهما لصاحبه على حال؛ لأن ذلك بيع الطعام قبل استيفائه، إلا أن يكون المبتاع هو المستقيل بزيادة مثل الثمن إلى ذلك الأجل فيجوز؛ لأنه يصير قد أدى الثمن ووهب الطعام، وإن تقايلا بعد اكتيال الطعام وقبل أن يقبضه المبتاع أو شيئا منه ويغيب عليه؛ وقبل أن يقبض البائع الثمن أيضا، أو شيئا منه ويغيب عليه؛ فالزيادة من كل واحد منهما لصاحبه جائزة، ما لم يكن في نفس الإقالة على الزيادة فساد، فيجوز على هذا أن يستقيل البائع من الطعام على أن يزيد المبتاع ما شاء من العروض والدنانير والدراهم نقدا وإلى أجل؛ لأنه يصير قد اشترى الطعام الذي استقال منه بالثمن الذي كان له على المبتاع، وبالزيادة التي زادها إياه، إلا أن تكون الزيادة من صنف الطعام الذي استقال منه، فلا يجوز على حال، أو من غير صنفه، فيجوز إذا كانت الزيادة نقدا والثمن حالا باتفاق؛ وإن كانت الزيادة نقدا والثمن مؤجلا فعلى قولين منصوص عليهما في الواضحة:
أحدهما: أن ذلك جائز على القول بأن انحلال الذمم بخلاف انعقادها، فلا يراعى في ذلك الأجل؛ لأنهما قد تباريا.
والثاني: أن ذلك لا يجوز على القول بأن انحلال الذمم كانعقادها، فيراعى في ذلك الأجل وإن كانا قد تباريا. ويجوز أن يستقيل المبتاع من الطعام قبل أن يحل أجل الثمن عليه على أن يزيده دنانير إن كان الثمن دنانير أو دراهم، إن كان الثمن دراهم إلى ذلك الأجل؛ لأنه أخذ منه طعامه ببعض الثمن ووفاه بقيته، ولا يجوز ذلك نقدا ولا إلى أبعد من الأجل؛ لأنه يدخله في النقد ضع وتعجل، وبيع وسلف، وعرض وذهب بذهب إلى الأجل، وفي التأخير إلى أبعد من الأجل بيع وسلف، وذهب وعرض بذهب إلى أجل. ويجوز على أن يزيده ما شاء من العروض والطعام نقدا، ولا يجوز ذلك إلى الأجل ولا إلى أبعد منه؛ لأنه إذا نقده الزيادة فقد اشتراها منه والطعام الذي استقاله منه بالثمن الذي كان له عليه فجاز، وإذا لم ينقده الزيادة فقد فسخ الثمن الذي كان له عليه في الزيادة التي زاده إياها إلى أجل فلم يجز؛ ولا يجوز أن يزيده دنانير إن كان الثمن دراهم، ولا دراهم إن كان الثمن دنانير نقدا ولا إلى أجل، ولا إلى أبعد منه؛ ويجوز أن يستقيل منه إن كان الثمن حالا أو بعد أن يحل عليه على أن يزيده ما شاء من العروض والدنانير والدراهم والطعام من صنف طعامه ومن غير صنفه نقدا، إلا أن تكون الزيادة التي زاده ورقا فلا يجوز، إلا أن يكون أقل من صرف دينار على مذهب ابن القاسم؛ ولا يجوز على أن يزيده شيئا من الأشياء إلى أجل؛ لأنه يدخله فسخ الدين في الدين.
وأما إن كان المبتاع قد قبض الطعام أو بعضه وغاب عليه، فلا تجوز الإقالة في جميعه على أن يزيد المبتاع البائع شيئا من الأشياء؛ لأنه إذا رد الطعام بعد أن غاب عليه وزاده، كان سلفا بزيادة، فيتهمان على أنهما عملا على ذلك، وقصدا إلى استجازته بإظهار البيعة والاستقالة؛ وكذلك إذا كان البائع قد قبض الثمن أو بعضه، فلا تجوز الإقالة بينهما على أن يزيد البائع المبتاع شيئا من الأشياء؛ لأنه إذا رد الثمن الذي قبض بعد أن انتفع به وزاده، كان سلفا بزيادة، فيتهمان على القصد إلى ذلك فلا يجاز لهما ويفسخ عليهما حماية للذرائع على مذهب مالك، وهذا إذا كان البيع إلى أجل، وأما إذا كان البيع نقدا فذلك جائز، إذ لا يتهم في بيوع النقد إلا في أهل العينة على ما يأتي له في رسم كتب عليه ذكر حق من هذا السماع. وهو دليل قوله في هذه المسألة: وإن تفرقا فلا أحبه إذا كان الثمن إلى أجل، وحكم المكيل والموزون من غير الطعام في هذا كله كحكم الطعام إلا في مراعاة الكيل، إذ يجوز بيعه قبل استيفائه؛ وحكم العروض والحيوان في ذلك كله حكم المكيل والموزون، إلا في مراعاة القيمة عليه إذ يعرف بعينه بعد أن يغاب عليه.

.مسألة يبتاع أحد دينا على ميت:

قال ابن القاسم: وسمعت مالكا قال: لا أرى أن يبتاع أحد دينا على ميت، وذلك غرر لا يدري ما يلحق الميت من دين فينتزع منه ما اشترى، وليس اشتراء الدين الذي على الميت والحي سواء؛ لأن الحي قد ضمن ذلك في ماله وذمته، وأن الميت ليس كذلك.
قال محمد بن رشد: هذا قول مالك في موطئه، وهو مما لا اختلاف فيه أعلمه؛ لأن اشتراءه غرر وإن كان على الدين بينة وعرف ما ترك الميت من المال، إذ قد يلحقه من الديون ما يستغرق تركته، فلا يكون له مما اشترى إلا محاصة الغرماء ويبطل الباقي، إذ لا ذمة له يتبعها ببقية دينه؛ وإنما يجوز شراء الدين على الحاضر المقر؛ لأنه إن ثبت عليه دين حاص الغرماء، واتبع ذمته ببقية حق؛ واختلف في شراء الدين عليه إذا كان منكرا، فالمعلوم في المذهب المنصوص عليه في الموطأ وفي غيرما كتاب من المدونة، أن ذلك لا يجوز؛ لأنه ينقد الثمن، إذ لا يجوز إلا ذلك، ولا يدري هل يتم له ما اشترى أو يرجع إليه ماله، فمرة يكون بيعا، ومرة يكون سلفا، وذلك من أعظم الغرر، وتقوم إجازته من إجازة ابن القاسم بيع الدار التي فيها خصومة على ما وقع في بعض روايات المدونة. وكذلك اختلف أيضا في شراء الدين على الغائب، فالمشهور أن ذلك لا يجوز، إذ لا يدرى أحي هو أم ميت؛ ومقر هو أم منكر؛ وأجاز ذلك ابن القاسم في سماع موسى بن معاوية من كتاب المدبر إذا كانت غيبته قريبة حيث يعرف حاله وملؤه، وقاله أصبغ في نوازله من كتاب جامع البيوع، ورواه ابن أبي زنبر عن مالك؛ قال: وذلك إذا كانت للبائع بينة على الحق، وعرفت حياة الذي عليه الدين.

.مسألة اشترى الميراث الغائب فيه عين وعرض بعرض:

وقال مالك فيمن اشترى الميراث الغائب فيه عين وعرض بعرض، قال: لا يصلح اشتراء غائب بنقد وإن كان اشتراه على أنه له وجده أو لم يجده، انتقص أو زاد؛ فذلك غرر لا يصلح، وإن اشترط إن لم أجده على هيئته رجعت فأخذت عرضي أو قيمته، فإنه يدخله سلف وبيع ليس بمضمون، وأنه يغرر بأمر إن أدركه أدرك حاجته، وإن أخطأه ذهب عناؤه وأخذ منه عرضه بقيمته؛ ولعله لم يكن يرضى أن يبيعها بأضعاف ذلك، فذلك مكروه.
قال محمد بن رشد: هذا مثل ما في المدونة من أن النقد في الغائب لا يجوز، كان الذي اشترى به عينا أو عرضا. وقوله إن ذلك لا يصلح، وإن كان اشتراه على كذا، وإن اشترط كذا- معناه: أن ذلك لا يصلح؛ لأنه إن اشتراه على كذا فهو غرر؛ وإن اشتراه على كذا فهو غرر. يقول: إن شراء الميراث الغائب فيه العين والعرض بعرض نقدا، لا يخلو من أحد هذين الوجهين، وكلاهما فاسد فلا يجوز؛ ولو اشتراه على أن يمسك العرض عنده ولا ينقده حتى يدري هل يجد الميراث على ما اشتراه عليه من الصفة لم يجز أيضا؛ لأنه إن مضى إلى موضع الميراث فوجده على ما اشتراه عليه لم يجز له أن يقبضه؛ لأنه يصير المشتري للميراث قد باع العرض الغائب الذي كان ثمنا للميراث بالميراث فانتقده فيصير نقدا في غائب.
والوجه الذي يجوز في ذلك: أن يتواضع العرض بيد أمين ويخرج إلى الميراث، فإن وجده على ما اشتراه، صح له قبضه على ما يأتي في رسم الجواب من سماع عيسى، وفي سماع أصبغ من جامع البيوع؛ وكذلك القول في كل غائب لا يجوز فيه النقد ويشترى بعرض. وأما إذا اشترى الغائب الذي لا يجوز فيه النقد بعين، فهو جائز إذا لم ينقده، ولو كان الميراث الغائب المشترى عينا موضوعا دون غيره، لجاز أن يشتريه بعرض على أن ينقده إذا اشترط أنه ضامن للعين الغائب؛ وقد قيل: إنه إذا اشتراه بعرض ونقده، كان البائع للعين الغائب ضامنا له وإن لم يشترط عليه الضمان؛ والقولان في الرواحل والدواب من المدونة، والقول بأنه ضامن وإن لم يشترط عليه الضمان على قياس القول بأن العين لا يتعين، والقول بجواز اشتراط ضمانه استحسان؛ لأن القياس فيه على القول بأن العين يتعين ألا يجوز اشتراط ضمانه كالعروض التي تتعين.

.مسألة حلف ألا يبيع سلعة سماها:

ومن كتاب أوله حلف ألا يبيع سلعة سماها:
وسئل مالك: عن رجل باع طعاما أو زيتا أو غير ذلك، وهو ممن يعين، فباعه متاعا بثمن إلى أجل، فباعه الذي اشتراه، ثم جاءه بعد ذلك، فقال: إني قد وضعت فيما بعت وضيعة كثيرة، فخفف عني من الثمن الذي بعتني به، فوضع له من ذلك؛ قال: هذا لا خير فيه. فقلت له: فما مكروه ذلك؟ قال: إنه يبيعه حين يبيعه كأنه يقول له كم تربح علي؟ قال: على العشرة اثني عشر، أو أقل أو أكثر، فهو يراوضه على ذلك، فيذهب فيبيع السلعة، فإن نقصت، رجع إليه فوضع عنه ورده إلى ما كان راوضه عليه من العشرة اثني عشر، فكأنه إنما يبيع له على المرواضة في ذلك، وقال: إنما يعمل على شيء قد قاضاه إياه على العشرة اثني عشر، فهذا لا خير فيه. قال: وأخبرني داود بن دينار أن ابن هرمز كرهه.
قال محمد بن رشد: تفسير المكروه الذي وصفه في هذه المسألة، هو أن الرجل يأتي إلى الرجل من أهل العينة، فيقول له: أسلفني عشرة مثاقيل في أحد عشر مثقالا إلى شهر، فيقول له: لا أسلفك إياها إلا في ثلاثة عشر مثقالا، فيتراوضان حتى يتفق معه على أن يسلفه العشرة ويرد عليه اثني عشرة، ثم يقول له: إن هذا لا يحل، ولكن عندي سلعة قيمتها عشرة دنانير، أبيعها منك باثني عشر دينارا إلى شهر، فتبيعها أنت بعشرة فيتم لك ما أردت، فيأخذ منه السلعة على هذا، فيبيعها بثمانية مثاقيل، ثم يأتي إليه فيقول له: لم تساو السلعة عشرة دنانير وقد وضعت فيها وضيعة كبيرة من العشرة، فحط عني من الاثني عشر التي وضعتها وما يجب لها من الدينارين اللذين بنيت على أن تربح معي في العشرة، وذلك ديناران وخمسا دينار، فيحط ذلك عنه تتميما لما كان راوضه عليه من أن يربح معه في العشرة دينارين، فيأخذ منه في الثمانية التي باع السلعة بها تسعة وثلاثة أخماس، فيئول الأمر بينهما إلى أن أسلفه ثمانية مثاقيل في تسعة وثلاثة أخماس، فهذا مما يتهم فيه أهل العينة ويحملون عليه، لعلمهم بالربا واستحلالهم له.

.مسألة رجال من أهل الفضل يتجرون في العينة ثم تركوها وهم يرون فضلها:

وقال مالك: كان رجال من أهل الفضل يتجرون في العينة ثم تركوها وهم يرون فضلها لما استرابوا منها.
قال محمد بن رشد: العينة على ثلاثة أوجه: جائزة، ومكروهة، ومحظورة؛ فالجائزة أن يأتي الرجل إلى الرجل منهم فيقول له: أعندك سلعة كذا وكذا تبيعها مني بدين؟ فيقول: لا، فيذهب عنه فيبتاع المسئول تلك السلعة، ثم يلقاه فيقول له: عندي ما سألت فيبيع ذلك منه. والمكروهة أن يقول له: عندك كذا وكذا تبيعه مني بدين؟ فيقول: لا، فيقول له: أتبيع ذلك وأنا أبتاعه منك بدين وأربحك فيه، فيشتري ذلك ثم يبيعه منه على ما تواعدا عليه، والمحظورة أن يقول الرجل للرجل: اشتر سلعة كذا وكذا بكذا وكذا، وأنا أشتريها منك بكذا وكذا، وهذا الوجه فيه ست مسائل تفترق أحكامها بافتراق معانيها:
إحداها: أن يقول له: اشتر سلعة كذا بعشرة نقدا وأنا أشتريها منك باثني عشر نقدا، فهذا أجازه مالك مرة، إذا كانت البيعتان بالنقد وانتقد، وكرهه مرة للمراوضة التي وقعت بينهما في السلعة قبل أن تصير في ملك المأمور.
والثانية: أن يقول له: اشتر سلعة كذا بعشرة نقدا، وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل، فهذا لا يجوز، إلا أنه اختلف فيه إذا وقع على قولين: أحدهما: أن السلعة لازمة للآمر باثني عشر إلى أجل؛ لأن المأمور كان ضامنا لها لو تلفت في يده قبل أن يبيعها من الآمر، ويستحب له أن يتورع فلا يأخذ منه إلا ما نقد فيها، وهو قول ابن القاسم في سماع سحنون من كتاب البضائع والوكالات وروايته عن مالك. والثاني: أن البيع يفسخ وترد السلعة إلى المأمور، إلا أن تفوت فتكون فيه القيمة معجلة كما يفعل في البيع الحرام؛ لأنه باعه إياها قبل أن يجب له فيدخله بيع ما ليس عندك.
والثالث: عكسها، وهو أن يقول له: اشتر سلعة كذا وكذا باثني عشر إلى أجل وأنا أبتاعها منك بعشرة نقدا، فهذا لا يجوز أيضا، إلا أنه يختلف فيه إذا وقع على القولين المذكورين، يلزم الآمر السلعة بالعشرة نقدا. ويستحب له أن يزيده الدينارين على القول الأول، ويفسخ البيع على القول الثاني، وترد السلعة إلى المأمور، إلا أن تفوت بيد الآمر فتكون عليه فيها القيمة، كما يفعل في البيع الحرام على القول الثاني، وهو قول ابن حبيب.
والرابع:
أن يقول له: اشتر سلعة كذا بعشرة نقدا، وأنا أبتاعها منك باثني عشر، فهذا مرجع الأمر فيه إلى أن الآمر استأجر المأمور على أن يبتاع له السلعة بدينارين أجرة، فإن كان النقد من عند الآمر، أو من عند المأمور بغير شرط فهو جائز، وإن كان من عند المأمور بشرط كانت إجارة وسلفا؛ لأنه استأجره بدينارين على أن يشتري له السلعة وينقد عنه، فتكون له إجارة مثله، إلا أن يكون أكثر من الدينارين، فلا يزاد عليهما على مذهب ابن القاسم في البيع والسلف إذا كان السلف من عند البائع وفاتت السلعة، أن للبائع الأقل من القيمة أو الثمن، وإن قبض السلف، وتكون له إجارة مثله بالغة ما بلغت على مذهب ابن حبيب في البيع والسلف إذا قبض السلف وفاتت السلعة، أن فيها القيمة بالغة ما بلغت؛ والأصح ألا تكون له أجرة؛ لأنا إن أعطيناه الأجرة كان الثمن ثمنا للسلف، فكان ذلك تتميما للربا الذي عقدا عليه، وهو قول سعيد بن المسيب، وهذه الثلاثة الأقوال إذا عثر على الآمر بعد أن نقد المأمور الثمن وقبل أن يحل الأجل؛ لأن السلف وإن كان حالا فلابد من الحكم فيه بأجل، ولو عثر على الآمر بعد أن ابتاع المأمور السلعة وقبل أن ينقد الثمن، لكان النقد على الآمر ولم يكن فيما يجب للمأمور من الأجرة إلا قولان: أحدهما: أن له الأجرة بالغة ما بلغت. والثاني: أن له الأقل، ولو لم يعثر على ذلك إلا بعد حلول الأجل، لم يكن فيما يجب للمأمور من الأجرة إلا قولان: أحدهما: أن له الأجرة بالغة ما بلغت. والثاني: أنه لا شيء له.
والخامسة: أن يقول له: اشتر لي سلعة كذا وكذا بعشرة نقدا وأنا أبتاعها منك باثني عشر إلى أجل، فهذا حرام لا يحل ولا يجوز؛ لأنه رجل ازداد في سلفه، فإن وقع ذلك لزمت السلعة للآمر؛ لأن الشراء كان له، وإنما أسلفه المأمور ثمنها ليأخذ منه أكثر منه إلى أجل، فيعطيه العشرة معجلة ويطرح عنه ما أربى، ويكون له أجرة مثله بالغة ما بلغت في قول، والأقل من أجرة مثله أو الدينارين في قول ولا يكون له شيء في قول؛ لئلا يكون ذلك تتميما للربا فيما بينهما على ما مضى من الاختلاف في المسألة التي قبلها.
وقال في سماع سحنون: إن لم تفت السلعة فسخ البيع وهو بعيد، فقيل: معنى ذلك إذا علم البائع الأول بعملهما.
والسادسة: أن يقول له: اشتر لي سلعة كذا باثني عشر إلى أجل، وأنا أشتريها منك بعشرة نقدا، فهذا حرام لا يجوز، ومكروهة إذا استأجر المأمور على أن يبتاع له السلعة بسلف عشرة دنانير يدفعها إليه ينتفع بها إلى أجل ثم يردها إليه، فإذا وقع ذلك لزمت الآمر السلعة باثني عشر إلى أجل؛ لأن الشراء كان له ولا يتعجل المأمور منه العشرة النقد، وإن كان قد دفعها إليه صرفها عليه ولم تترك عنده إلى الأجل، وكان له جعل مثله بالغا ما بلغ في هذا الوجه باتفاق، والله أعلم.

.مسألة رجل ممن يعين يبيع السلعة من الرجل بثمن إلى أجل:

وسئل مالك: عن رجل ممن يعين يبيع السلعة من الرجل بثمن إلى أجل، فإذا قبضها منه ابتاعها منه رجل حاضر، كان قاعدا معهما، فباعها منه؛ ثم إن الذي باعها الأول اشتراها منه بعد، وذلك في موضع واحد، قال: لا خير في هذا، ورآه كأنه محلل فيما بينهما، وقال: إنما يريدون إجازة المكروه. قال سحنون: وأخبرني ابن القاسم عن ابن دينار أنه قال: هذا مما يضرب عليه عندنا، وهو مما لا يختلف فيه أنه مكروه، وأرى أن يزجر عنه، وأن يؤدب من فعله؛ قال ابن القاسم: ورأيتها عند مالك من المكروه البين.
قال محمد بن رشد: هذا صحيح على طرد القياس في الحكم بالمنع من الذرائع؛ لأن المتبايعين إذا اتهما على أن يظهرا أن أحدهما باع سلعة من صاحبه بخمسة عشر إلى أجل ثم اشتراها منه بعشرة نقدا، ليتوصلا بها إلى استباحة دفع عشرة في خمسة عشر إلى أجل، وجب أن يتهما على ذلك، وإن اشتراها الذي باعها من غير الذي باعها منه إذا كان في مجلس واحد، لاحتمال أن يكونا إنما أدخلا هذا الرجل فيما بينهما لتبعد التهمة عن أنفسهما ولا تبعد عنهما به؛ لأن التحيل به ممكن بأن يقولا لرجل مثلهما في قلة الدعة: تعال تشتري من هذا الرجل هذه السلعة التي تبيعها منه بخمسة عشر إلى أجل بعشرة نقدا، وأنا أبتاعها منك بذلك، أو تربح دينارا فتدفع إليه العشرة التي تأخذ مني ولا تزد من عندك شيئا، فيكون إذا كان الأمر على هذا، قد رجعت إلى البائع الأول سلعته، ودفع إلى الذي باعها منه عشرة دنانير، يأخذ بها منه خمسة عشر إلى أجل؛ ويكون إذا كان قد ابتاعها من الثاني بربح دينار على الشرط المذكور، قد أعطاه ذلك الدينار ثمنا لمعونته إياه على الربا؛ ولو باع الرجل من الرجل سلعة بثمن إلى أجل ثم مات، لم يجز لورثته أن يشتروها منه بأقل من ذلك الثمن نقدا؛ لأنهم يتهمون على إتمام ما قصد إليه موروثهم من استباحة الربا، ولو مات المشتري لجاز للبائع أن يشتريها من ورثته؛ لأن الثمن قد دخل عليه بموته، قاله ابن القاسم في الدمياطية.